موقف الفقه والسنة من جرائم الشرف ..!!
تتمة لبحثنا عن جرائم الشرف الذي بدأنا به سابقا( اقرأ المقال.. ) للتعريف بهذه الجريمة والعقوبات المترتبة عليها فإننا نستكمل هذا البحث لنبين مواقف الفقه والسنة من هذه ا الجرائم لتحديد مواطن الخطر والخلل في هذا التشريع ونحدد المسؤول عنها بدقة وبالتالي نصل إلى نتيجة مفادها التحريم أو التعديل أو الإبقاء على هذه الجرائم تبعاً لما تقدم:
الجريمة هي فعل مادي يتمثل بالقيام بعمل غير مشروع يأتيه الجاني ضد المجني عليه ويحدد القانون أركان الجريمة وأدلة ووسائل الإثبات والعقوبات المترتبة على ارتكابها ونصاب الشهادة ودرجة القرابة فيها وضَمِن حق الدفاع للمتهم واعتبره بريئاً ما لم تثبت إدانته بأدلة قاطعة دامغة تقدم إلى المحكمة وحصر الدستور الحق للدولة في إنزال العقاب على المجني علية تحت طائلة البطلان لتعلقه بالنظام العام و بسيادة وهيبة الدولة تجاه مواطنيها. وترك المشرّع لكل من يعد نفسه متضرراً من جراء جناية أو جنحة أن يقدم شكوى يتخذ فيها صفة الادعاء الشخصي إلى قاضي التحقيق المادة /57/ قانون أصول محاكمات جزائية والمادة :
/58/ من القانون نفسه بأن لكل متضرر من قضايا الجنحة أن يقيم دعواه مباشرة أمام محكمة الجزاء. إذاً القضاء هو الطريق الحصري لدفع الضرر واستيفاء الحق بعد إعطاء فرصة للطرف الأخر لنفي هذه التهم والدفاع عن نفسه.. إلا أن المشرّع خرق وبشكل مرعب ومذهل جميع المواد الدستورية وقوانين الجزاء والعقاب ومقتضيات العدالة بمنحه الرجل امتيازاً غير مبرراً لأخذ حقه بيده وغسل عاره بنفسه وارثاً ومكرساً لشريعة الغاب وتبعاتها البدوية القبلية التي تقوم على أساس أخذ الحق باليد (فهو القاضي وهو الجاني) فللقوي حق طبيعي على الضعيف لمجرد قوته ويتقاضاه بقوته فالقوة تصنع الحق وتتقاضى به وتثبت به وبذلك تضمن الشريحة المسيطرة ولاء الشريحة الغير المسيطرة فنحن لم نسمع يوماً أن امرأة قتلت زوجها أو أخاها أو ابنها أو قريبها بداعي الشرف رغم أنها أول من يطلب منه تمثل هذه القيم ونقلها لبنات جنسها فالمنطق القانوني هو منطق القوى الغير المتكافئة وغير المتوازنة داخل الأسرة التي يحميها القانون ويشرعنها والتي تعود بأصولها ونشأتها لنشأة العبودية التي كانت أهم مفرزات النظام البطريركي.. ولكن أما آن لنا أن نخرج من شريعة حق القوة ونبدأ بدخول شريعة قوة الحق وشريعة الإنسان عندها لا بد أن يكون للضعيف حق ينص عليه القانون ويطبقه القضاء وتنفذه السلطة..
ففي الوقت الذي يحدد فيه المشرّع أدلة الإثبات لكل جريمة يترك الأمر هنا لكل جاني أن يختار دليله بنفسه لإدانة المجني عليها وتتعاطف المحكمة مع هؤلاء القتلة بتقبلها لجميع الحجج والمزاعم و الأعذار الواهية التي يسوقها ويوردها الجناة ضد المجني عليهن ودون أي دليل سوى نفسه وبدون أي عناء من المحكمة للتثبت من صدقه أو كذبه مراعية حالته النفسية وانفعالاته العاطفية وكرامته المهدرة (وطبعاً هو من يقرر جميع حالاته وأوضاعه وانفعالاته وأوضاع المجني عليهن) وبذلك يمتلك حق إدانة نفسه أو براءتها بشهادته لنفسه أو عليها دون أن تتمكن المغدورة من الدفاع عن نفسها ودحض التهم التي ساقها الجاني ضدها وكيف لها ذلك وهي جثة هامدة.. فهي من الناحية القانونية شهادة معدومة وباطلة وغير دستورية لصدورها من إنسان حي ضد إنسان ميت لا يستطيع تكذيب أو نفي ما يلصق به من تهم ونحن نعلم أن أغلب هذه الجرائم ترتكب عمداً بعد سبق الإصرار وبعد مدة من وقوع الجرم المنافي للحشمة المزعوم بعدة أيام وأسابيع وشهور متناسياً المشرّع أنه وضع لهذه الشهادة ضوابط ومراسم وأصول وقواعد معقدة ودقيقة إذا ما خالفتها وجب على القاضي ردها وعلى سبيل ذلك ما جاء في المادة /58/ قانون بينات أنه في حال الإجازة بإثبات واقعه بشهادة الشهود أن يكون للخصم الآخر الحق في نفيها بهذا الطريق وأضاف القانون نفسه أنه لا يخفى على أحد ما في هذا النص من عدالة لأنه يسوي بين الخصوم في طرق إثبات الوقائع وبذلك جازت الشهادة على النفي إطلاقاً.
وأيضاً ما نص عليه قانون البينات لموانع الشهادة إذ لا تقبل شهادة الأصول والفروع أو شهادة أحد الزوجين أو شهادة أبوي الزوج الآخر أو الحواشي حتى الدرجة الثالثة واعتبر هذا المنع من النظام العام لأن مابين هؤلاء من صلات القربى والثقة المتبادلة تمنعه من الإدلاء بشهادته بحياد دون الرضوخ لمشيئة الآخر دفعاً لمغرم أو جراً لمغنم ويجب على القاضي رفض دعوتهم للشهادة وإذا ما دُعوا وجب على القاضي أن يمتنع عن سماعهم وإذا ما ظهرت له أسباب المنع بعد أداء الشهادة وجب عليه أن لا يأخذ بها.. فإذا رأى المشرّع أن هناك مصالح مادية ومعنوية ستحول حتماً دون إدلاء الشاهد بشهادته بحياد فمن باب أولى أن تمنع شهادة الإنسان لنفسه وهو أقرب المقربين لها وأكثر المدافعين عن مصالحها فهو الذي يصدر الحكم وهو الذي ينفذه ويجمع بيده السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية وبهذا انحراف عن مسار القانون لأنه لا يمكن لمجرم أن يعترف بجريمته طوعاً مما يعطي أحكاماً مقدمة بالبراءة للجناة وأحكاما ًمقدمة بالإدانة للمجني عليهن وهذا يأتي ضمن إطار التمييز الدقيق المنتظم المدروس المتأني والمتغلغل في جميع مواد القانون وثغراته وبنوده ومفرداته والمتأتي عن وعي وإرادة وإيمان عميق راسخ بضرورة وضع النساء وبشكل دائم تحت وصاية السلطة الذكورية من العائلة التي تجيز القتل لمجرد الشبهة والريبة والظن والمزاجية للجاني ويعزز القانون بذلك مفهوم جرائم الشرف عن طريق العقوبة المفروضة على القاتل والتي تعتبر بدون شك ترخيصاً للقتل من قبل الرجل الذي يعتقد من وجهة نظره أن المغدورة خرقت منظومة قيمه الذكورية الضاربة بجذورها في شتى أنحاء المجتمع ومواد القانون والتي تعبر عن الخوف والتوجس من كل حركة تقوم بها المرأة وليس صحيح ما يقال أن المشرّع يعتقد أن المرأة ناقصة قاصرة كما هو معمول به ومنصوص عليه بل أنه يخشاها ويتوجس منها بدليل ترصده لها في كل ثغرة ممكن أن تتحلل فيها من القيود أو يتسلل الوعي لها بزيف هذه المعايير الأخلاقية والقانونية المزدوجة التي تطبق على الرجال دون النساء وعلى الفقيرات منهن دون الغنيات وعلى زمان دون زمان وعلى مكان دون مكان إذ عادة ما يقوم القانون بتجريم وتحريم العادات التي تتناقض مع الدستور ومبادئ العدالة (جرائم الثأر) ولكنه يتبنى ويشرعن كل عادة تعزز دونية المرأة وضعفها.. والسؤال إذا كان شرف الإنسان في جميع بقاع الأرض يقاس بعقله وعمله فلماذا اختصر الشرف في هذه المجتمعات وتجسد في جسد المرأة دون عقلها.